تونس- رأسمالية استبدادية تقوّض الاقتصاد وتُهدّد الاستقرار الاجتماعي.

إن صعود الرأسمالية السلطوية في تونس، بقيادة رئيس يركز قبضته الحديدية على السلطة، قد أوجد بيئة تتسم بعدم الاستقرار الاقتصادي والانكماش، وذلك بدلًا من أن يقلل من اعتماد البلاد على الغرب أو يحفز الاستثمار، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع الأهداف التي أعلنها الرئيس نفسه. بل على النقيض من ذلك، فإنه قد فاقم من حالة التكل على أوروبا وعلى تحويلات التونسيين المقيمين في الخارج. علاوة على ذلك، فإن الحملة الشرسة لمكافحة الفساد قد أفضت إلى اعتقالات عشوائية تطال قطاع الأعمال، حيث يعيش الفاعلون الاقتصاديون في حالة من الخوف الدائم، مجبرين على تجاوز القوانين غير القابلة للتطبيق، ومجازفين بعقوبات قاسية تطالهم في كل لحظة.
إن هذا الوضع الراهن ينطوي على مخاطر جسيمة تهدد استقرار تونس، حيث يؤدي إلى تفاقم حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي، لا سيما مع تقلص الفرص الاقتصادية المتاحة. كما أنه قد يشعل نار الاستياء في قلوب شريحة واسعة من السكان، الذين يرون مستقبلهم يتلاشى أمام أعينهم.
إن الخطاب القومي والشعبوي الذي يعتمده الرئيس التونسي قيس سعيد يزيد من تأجيج هذه الديناميكية، ويقسم المجتمع على أسس أيديولوجية متناقضة. وعلى الرغم من الركود الذي يشهده النمو الاقتصادي، فإن خطاب المواجهة يزداد شعبية، مما يضفي شرعية مسبقة على أعمال عنف محتملة قد تكون أشد وطأة من تلك التي استهدفت المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى في عام 2013.
رأسمالية استبدادية غير فعالة
في ضوء هذه التطورات المقلقة، يجب على حلفاء تونس والجهات المانحة أن يدركوا الخطر الكامن من زعزعة الاستقرار الذي ينطوي عليه النظام الذي يجري بناؤه، وأن يتخذوا الإجراءات الضرورية لتشجيع الإصلاحات الجذرية المتعلقة بالحكم الرشيد وحقوق الإنسان الأساسية. ومن الضروري أيضًا إدانة هذا الخطاب التحريضي بشكل قاطع لتجنب التصعيد المحتمل الذي قد يؤدي إلى عواقب وخيمة.
لم تتمكن تونس حتى الآن من استعادة النمو الذي خسرته في أعقاب جائحة كوفيد-19، وهو أمر يثير القلق بأكثر من طريقة. فالنمو المتراكم على مدى ثلاث سنوات لم يتمكن من التعويض عن الانكماش الحاد الذي بلغ 8.7% في عام 2020، بل انخفض في عام 2023، بالكاد يصل إلى 0.4%.
هناك العديد من العوامل الاقتصادية المستقلة عن السلطة السياسية تساهم في تفسير هذا الأداء الضعيف. مما لا شك فيه أن ثلاث سنوات متتالية من الجفاف، والتصنيف السيادي المتدني للبلاد، والانكماش الحاد في الائتمان على الصعيد العالمي، والارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام في أعقاب الحرب في أوكرانيا، والعبء الثقيل للدين العام؛ كلها عوامل ساهمت بشكل كبير في تباطؤ النشاط الاقتصادي.
ومع ذلك، فإن تركيز الخطاب السياسي للرئيس قيس سعيد على مكافحة الفساد، وسجن أعداد متزايدة من السياسيين والنقابيين وكبار موظفي الخدمة المدنية ورجال الأعمال والمواطنين العاديين، يعرقل النمو بشكل كبير.
إن الرأسمالية السلطوية التي يتم تأسيسها تحت رعاية الرئيس الذي يستحوذ على أغلبية السلطات لم تجعل البلاد أقل اعتمادًا على الغرب، ولم تضف بعدًا أخلاقيًا على الاقتصاد، ولم تشجع على الاستثمار. على العكس من ذلك، فقد أصبح الاعتماد على الغرب أكثر أهمية من أي وقت مضى، على الرغم من الخطاب السيادي الذي يدعو إلى "الاعتماد على مواردنا الخاصة".
الخطاب السياسي
يتجسد الشعار الشعبوي لمكافحة الفساد في زيادة الاعتقالات في مجتمع الأعمال، والتي يبدو أن هدفها الخفي يكمن في إخضاع طبقة رجال الأعمال للخط السياسي وإعادة الأموال إلى خزائن الدولة.
علاوة على ذلك، يتم تقديم الغالبية العظمى من الأفراد في وسائل الإعلام على أنهم فاسدون ارتكبوا جرائم جمركية وضريبية ومخالفات تتعلق بصرف العملات الأجنبية، حيث تفعل ذلك أغلبية كبيرة من المواطنين بسبب طبيعة القوانين غير القابلة للتطبيق، والتي صدرت على مدى عقود من الزمن، ومعظمها لأهداف قصيرة المدى تتعلق بحماية المقربين من السلطة السياسية.
والنتيجة هي أن الفاعلين الاقتصاديين أصبحوا غير قادرين على الامتثال للقانون بنسبة 100%، لأن السلطات العامة لم تسعَ إلى تكييف اختصاصها القضائي مع واقع الممارسات الاقتصادية، في خوف من دفعهم غرامات باهظة، أو حتى السجن، أو إجبارهم على المنفى. كما أن حماسة موظفي الخدمة المدنية -الذين يستغلون خطاب رئيس الدولة ووسائل الإعلام المناهض للفساد والأغنياء- لممارسة القليل من الانتقام ضد الأثرياء، وأولئك الذين يُزعم أن لديهم امتيازات، تنتشر أكثر فأكثر وتسهم في تقليل الاستثمار.
في الأثناء، يتعرض العديد من رواد الأعمال الذين ينتجون منتجات مدعومة من الدولة إلى "الابتزاز" تقريبًا من قبل السلطات العامة، ويجبرون على مواصلة نشاطهم حتى لو لم يتلقوا أموال التعويضات العامة، خوفًا من أن يجدوا أنفسهم خلف القضبان، بسبب مخالفات بسيطة نسبيًا، وخيارهم الوحيد هو الفرار من البلاد.
الجدير بالذكر أنه في الأعوام 1990-2000، في عهد الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (1987-2011)، كان النظام استبداديًّا وكان الخوف منتشرًا في مجتمع الأعمال وبين المواطنين العاديين؛ ومع ذلك تمتع المستثمرون بالحماية ما داموا يدفعون العُشر لبعض الأشخاص رفيعي المستوى.
في المقابل، فإنه في "تونس سعيّد" لم يعد لذلك وجود بغض النظر عن جنسيتهم، ولا أحد يعرف من أين يمكن أن يأتي "فتح الملف"؛ فالقدرة على التنبؤ تكاد تكون معدومة والثقة تنهار.
من جهة أخرى، هناك ثلاث سمات من المفترض أن يولدها النظام الرأسمالي الاستبدادي الفعال؛ فبدلًا من أن يؤدي الخوف من السجن والغرامات الباهظة إلى قدر أعظم من الأخلاق والانضباط، فإن الخوف من ذلك يؤدي إلى شلّ النشاط الاقتصادي.
إن مناخ الإدانة والولاء لرئيس الدولة يتعزز، وكذلك اللامبالاة السياسية وعدم الاهتمام بالشؤون العامة؛ ويظهر ذلك من خلال نسب المشاركة في الانتخابات الأخيرة التي لم تتجاوز بالكاد 10%. وكما هي الحال في عهد بن علي، فإن ممارسة المواطنة محفوفة بالمخاطر، كما يتضح من سجن المعارضين السياسيين.
ويتمتع رئيس الدولة بمزيد من السلطات، ولكن لم يتم إنشاء أي هيكل هرمي استبدادي، ليكون أكثر مرونة بفضل الوسطاء الذين يسهلون النشاط الاقتصادي من خلال حماية المستثمرين من انعدام الأمن القانوني؛ فالرئيس يستخدم سلطته وشرعيته لتأييد اعتقال المزيد من المواطنين من قبل الأجهزة الأمنية والقضائية، وكأن ذلك سيجعل التونسيين الذين ما زالوا أحرارًا فاضلين ومنتجين ووطنيين.
ومن خلال القيام بذلك، فهو يعمل على تعزيز الخوف في صفوف أصحاب الامتيازات، في حين يسمح للمحرومين بالاعتقاد بأنهم سيأخذون مكانهم قريبًا، عندما يتم وضع البنية المؤسسية والاقتصادية الجديدة التي يروج لها مع دائرته الداخلية الأيديولوجية.
وأخيرًا، فإنه يسهم في تثبيط الرغبة في الانتقام لدى الفئات الأكثر تواضعًا من السكان ضد الطبقة الوسطى، التي تمكن معظم أفرادها -على مر الأجيال- من الاستفادة من أي سخاء من الدولة والسلطة السياسية من خلال السماح لهم بالوصول إليها.
نحو استقطاب المجتمع
وتمثل مثل هذه الآلية مخاطر جمة على استقرار البلاد، فهي تستقطب المجتمع في سياق ندرة الموارد المختلفة التي يمكن للدولة تخصيصها، ومن شأن هذا أن يعزز احتمال أن يحاول جزء من المجتمع الاستيلاء بشكل مباشر على الامتيازات التي يتمتع بها جزء آخر، حتى لو كان الاتجاه -في الوقت الحالي- يسير نحو الجمود والتسريح الاجتماعي والسياسي.
وبالإشارة إلى أن المؤيدين لقيس سعيد سيكونون هم الأشخاص المميزين الذين يمكنهم غدًا أن يحلوا محل أولئك الذين نشؤوا مع "العقد الأسود" (2011-2021)، وهو تعبير يشير إلى "التحول الديمقراطي في لغة النظام" على خلفية الفساد؛ يقوم الرئيس بتشكيل جانب من السكان ضد جانب آخر.
والخطاب القومي والمناهض للغرب لقيس سعيد وأنصاره يعمل على تسييس الآلية الموصوفة. ووفقًا لهذا الخطاب، فإن الأغنياء والفاسدين والمؤيدين للغرب وإسرائيل يواجهون الفقراء والمحرومين والوطنيين والفاضلين المؤيدين للفلسطينيين والمناهضين للغرب.
بمعنى آخر، أصبح قيس سعيد أكثر شعبية في الوقت نفسه الذي يتباطأ فيه النشاط الاقتصادي. ومع اقتراب النمو من الصفر تزداد قوة هذا الخطاب؛ مما يؤدي إلى المزيد من الاعتقالات والخوف والركود الاقتصادي.
وفي الواقع، تضفي شعاراته العدوانية معنى أكبر للإحباطات الشعبية. وعلى نحو مماثل، فإنها تضفي شرعية مقدمًا على اندلاع أعمال عنف محتملة من قاعدته الاجتماعية والسياسية غير المتجانسة، ويتراوح ذلك بين نشطاء الصدمة السابقين في الحزب الذي كان في السلطة في نهاية الثمانينيات والذين همّشهم بن علي، إلى القوميين العرب واليساريين الذين تجمعهم معاداة الإسلام السياسي والرغبة في تشكيل نخبة مضادة لم تعد شرعيتها مبنية على النسب والكفاءة والتخصص، بل على التفاني في قضية ما.
وهذه القاعدة الكبيرة، خاصة في المناطق الداخلية من البلاد، تهدد – إذا استمر الوضع الاقتصادي في التدهور- بتشكيل مجموعات للدفاع عن النفس وتحويل ولائها إلى تعصب تجاه رئيس الدولة، واستهداف المعارضين السياسيين، والصهاينة "الفاسدين" والمؤيدين للغرب من جميع الأطراف.
بمعنى آخر، إن مناخ العنف ضد المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، الذي تم استهدافه بعد التدخل العام لقيس سعيد في فبراير/شباط 2023، سيكون بمثابة مقدمة لهذا السيناريو، إذا تحقق. كما ادعى رئيس الدولة أن "جحافل المهاجرين غير الشرعيين" كانت مصدر "العنف والأفعال غير المقبولة"، مضيفًا أن "الهدف النهائي" للهجرة من بلدان جنوب الصحراء الكبرى إلى تونس يكمن في "تحويل التركيبة السكانية" و"تجريدها من هويتها العربية الإسلامية".
في الأثناء، تشكلت مجموعات صغيرة للدفاع عن النفس ردًا على ذلك؛ ففي المدن والضواحي الكبرى هاجموا المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى أو أبلغوا عنهم الشرطة والحرس الوطني. وقد ساعدت بعض هذه الجماعات قوات الأمن في إجلاء مئات المهاجرين من منازلهم أو دخلت منازل المهاجرين بأنفسهم لتخريبها ونهبها.
بالتالي، يجب على الدول الصّديقة لتونس -الغربية والعربية- أن تدرك أن النظام الذي يتشكل يحمل في طياته إمكانية كبيرة للعنف الذي يجب توقعه بالفعل؛ ولذلك ينبغي على الجهات المانحة الدولية أن تستمر في تشجيع الإصلاحات في مجال الحكم وحماية حقوق الإنسان، مع إدانة الخطابات العدائية بوضوح، والتي -على المدى القصير أو المتوسط- يمكن أن تتحول إلى أعمال عنف في حال توفّر الشروط الملائمة وقرّرت الدولة التونسية ذلك.
